ما رأيكم لو قمنا بفسحة بين المدن الفرعونية وكيفية أنشائها.
ربما لم يحظ أحد في تاريخ الإنسانية، بنفوذ "السلطة" الذي كان يحظى به فرعونٌ من فراعنة مصر القديمة، وبقوة تفوق قوة قياصرة الرومان ومُلْكَ ملوك بابل.
حكم الفراعنة الشعب بيد من حديد هذا الشعب الذي عبدهم من دون الله لاعتقاده الباطل أنهم متحدرون من سلالة إله الشمس لقد كانوا يعدونهم خالدين وقادرين على "قهر" قوى الطبيعة "وحمل راية" التحدي على مر القرون.
هذا التحدي الذي تجسّد بقبور الفراعنة والمعابد التي شيّدت على شرف الآلهة الباطلة، إلا أن هذا لا ينطبق على مدنهم التي اختفت بقدرة الله عن وجه الأرض بشكل غريب وكأن رمال الصحراء ابتلعتها.
اعتادت الحياة المصرية المعاصرة على العيش جنباً إلى جنب مع آثار حقبة الفراعنة، فالمرء يشعر بضخامة الأبنية المشيّدة، فهناك الأهرامات التي تقع على ضفّة نهر النيل اليسرى حيث تغرب الشمس ومعابد "الكرنك" و"الأقصر" التي بناها الفراعنة على شرف إله مصر المزعوم بعد الجهد الكبير الذي بذله مئات ألوف العاملين.
لماذا إذن وعلى الرغم من مهارة البنائين المصريين القدامى الكبيرة، لم يبق سوى القليل من هذه المدن موجوداً؟
الإجابة على هذا السؤال تكمن في أهمية هذه الأبنية، بينما قدّر للمعابد والأهرامات أن تصمد في وجه قساوة وضراوة القرون، كان يتوجّب على عامة الشّعب الذي يخضع للفراعنة، صناعة بعض التقنيات التي لا نزال نستخدمها حتى يومنا هذا، وذلك باستخدام الطين اللين "الطري" والتّبن المجفف تحت أشعة الشمس.
هكذا نشأت هذه المدن، ومنها مدينة ممفيس أول عاصمة للفراعنة، حيث ستقودنا أول رحلة لاستكشاف مصر القديمة إلى بعض هذه المدن مما سيتيح لنا التعرف على حياتهم اليومية بصورة أفضل.
سيكون دليلنا الخيالي الافتراضي، رجلاً عاش خارج بيئته في شوارع إحدى المدن المزدحمة أثناء عهد الفراعنة، لقد اخترنا "كاتباً" كهذا الشخص الذي يجسّده التمثال الموجود في متحف القاهرة، وسنطلق عليه اسم نيفير.
لعب هذا "الكاتب"، دوراً مهماً في مصر القديمة، لقد تعلم بعد سنوات من دراسة فنّ الكتابة الهيروغليفية ومبادئها.
لم يكن للكتابة شأن عظيم بين السكان وكان يحيطها الكثير من الغموض.
وجد الكتّاب مهنة مستقلّة لهم، وكسب الكثير منهم لقمة عيشه من خلال تدوين ونسخ "القرارات" الحكومية والإدارية.
كما لعب الكتّاب دوراً أساسياً في إدارة البلاد،ونتيجة لذلك كانوا موجودين في كل مدينة وخاصة تلك المدن التي شكّلت عواصم المملكة، وتلك هي المدن التي سنزورها خلال رحلتنا الطويلة، عبر مياه نهر النيل.
وجهتنا الأولى ستكون مدينة ممفيس،أول عاصمة للفراعنة ونحن الآن على بعد بضعة أميال من جنوب القاهرة، حيث تشير اللوحة الموضوعة على الطريق إلى قرية ميت راهينه وهذا يعني أننا وصلنا إلى هدفنا.
يصعب تخيّل أن مثل هذه البقعة المهجورة كانت تعد قلب إحدى أكبر وأثرى وأغنى المدن في العالم القديم، فبعد مرور أربعة آلاف عام، لا زلنا نشاهد هنا قصوراً ومعابد محاطة بشبكة من الشوارع والمنازل، كانت مدينة ممفيس موطناً لكبار المفكرين في تلك الحقبة إضافة إلى أشهر العلماء والنّحاتين والفنانين المحترفين الذين صنعوا تمثال أبي الهول المصنوع من المرمر أو تمثال "رعمسيس الثاني" الذي يعد أكثر التماثيل تأثيراً في كل أنحاء مصر، ولقد أعيد اكتشافه بعد بقائه مطموراً تحت الرمال آلاف السنين.
في أيامنا هذه، لم يبق شيء من مدينة ممفيس فوق هذه القرية البسيطة المحاطة بالصحراء وبعض أشجار النخيل.
ما الذي جعل هذه العاصمة التي اكتشفها الملك مينيس عام ثلاثة آلاف ومائة ق. الميلاد تتمتع بمثل هذه القوة والضخامة؟ ولا يوجد من ماضيها الآن إلا القليل؟
هذا ما بقي من معبد بتاه الذي كان يعد من أكبر المعابد في مصر القديمة وهو لا يزال مطموراً تحت التلة الصغيرة التي تقع فوقها.
قرية ميت راهينه في أيامنا هذه.
والسبب بسيط، عندما وصلت مدينة ممفيس إلى نهايتها، تم تفكيك آثارها واستخدمت حجارتها لبناء أبنية جديدة.
هكذا كانت تبدو العاصمة بالنسبة إلى نيفير عندما عبر شوارع مركز المدينة المزدحمة، أنه مشهد افتراضي بالطبع، ولكن دراسات علماء الآثار لم تكن متطوّرة بشكل كافٍ لتسمح بإيجاد مخطّط دقيق للمدينة.
على مسافة قريبة، ربما كان نيفير قادراً على رؤية أحد هذه المعابد العديدة التي وُجِدَتْ مدينة ممفيس في المدة الأخيرة.
دعونا نفترض أن أحد الأعمال اليومية الاعتيادية لـنيفير هو وجوده في هذا الفرن، حيث سيبتاع الخبز من أجل الغداء.
لقد تمكن علماء الآثار من إعادة تشكيل هذه الوجبة، الجزء الداخلي الناعم من الرغيف تمت إزالته ورشّ بالماء والخل، وباستخدام مدقة وهاون، تم خلط الفلفل والعسل والنعناع والكزبرة والجبنة والملح والزيت مع بعضها البعض ومن ثم استخدم هذا الخليط لحشو الرغيف المجوّف.
كان الفرن يبيع الخبز للزبائن الذين كانوا يقفون في باحته وذلك باتباع طريقة المقايضة حيث لم يكن هناك تداول للعملة التي صكّت بدءاً من عام خمسمائة ق.م فقط.