محمود سامى البارودى
1839 - 1904
المولد والنشأة :
ولد محمود سامي البارودي بالقاهرة في (27من رجب 1255 هـ - 6 من أكتوبر 1839م) لأبوين من الجراكسة ، وجاءت شهرته بالبارودي نسبة إلى بلدة "إيتاي البارود" التابعة لمحافظة البحيرة .
وقد ولد البارودى في حي باب الخلق بالقاهرة لأبوين من أصل شركسي من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي (أخي برسباي) ، وكان أجداده ملتزمي إقطاعية ايتاى البارود بمحافظة البحيرة ، ويجمع الضرائب من أهلها ، يعتبر البارودي رائد الشعر العربي الحديث الذي جدّد في القصيدة العربية شكلاً ومضموناً ، ولقب باسم فارس السيف والقلم .
نشأ البارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان ، فأبوه كان ضابطا في الجيش المصرى برتبة لواء ، وعُين مديرا لمدينتي بربر ودنقلة فى السودان ، ومات هناك وكان محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره .
نشأ البارودي في أسرة على شيء من الثراء والسلطان ، فأبوه كان ضابطًا في الجيش المصري برتبة لواء ، وعُين مديرًا لمدينتي "بربر" و"دنقلة" في السودان ، ومات هناك ، وكان ابنه محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره .
تلقى البارودي دروسه الأولى في بيته ، فتعلم القراءة والكتابة ، وحفظ القرآن الكريم ، وتعلم مبادئ النحو والصرف ، ودرس شيئًا من الفقه والتاريخ والحساب ، ثم التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية سنة (1268هـ = 1852م) ، وفي هذه الفترة بدأ يظهر شغفًا بالشعر العربي وشعرائه الفحول ، وبعد أربع سنوات من الدراسة تخرّج برتبة "باشجاويش" ثم سافر إلى إستانبول مقر الخلافة العثمانية ، والتحق بوزارة الخارجية ، وتمكن في أثناء إقامته من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما ، وحفظ كثيرًا من أشعارهما ، ودعته سليقته الشعرية المتوهجة إلى نظم الشعر بهما كما ينظم بالعربية ، ولما سافر الخديوي إسماعيل إلى العاصمة العثمانية بعد توليه العرش ليقدم آيات الشكر للخلافة ، ألحق البارودي بحاشيته ، فعاد إلى مصر بعد غيبة طويلة امتددت ثماني سنوات ، ولم يلبث أن حنّ البارودي إلى حياة الجندية ، فترك معية الخديوي إلى الجيش برتبة بكباشي .
حياة الجندية :
وفي أثناء عمله بالجيش اشترك في الحملة العسكرية التي خرجت سنة (1282 هـ - 1865م) لمساندة جيش الخلافة العثمانية في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة "كريت" ، وهناك أبلى البارودي بلاء حسنًا ، وجرى الشعر على لسانه يتغنى ببلده الذي فارقه ، ويصف جانبًا من الحرب التي خاض غمارها .
وبعد عودة البارودي من حرب كريت تم نقله إلى المعية الخديوية ياورًا خاصًا للخديوي إسماعيل ، وقد ظل في هذا المنصب ثمانية أعوام ، ثم تم تعيينه كبيرًا لياوران ولي العهد "توفيق بن إسماعيل" في (ربيع الآخر 1290هـ - يونيو 183م) ، ومكث في منصبه سنتين ونصف السنة ، عاد بعدها إلى معية الخديوي إسماعيل كاتبًا لسره (سكرتيرًا) ، ثم ترك منصبه في القصر وعاد إلى الجيش .
ولما استنجدت الدولة العثمانية بمصر في حربها ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب ، كان البارودي ضمن قواد الحملة الضخمة التي بعثتها مصر ، ونزلت الحملة في "وارنة" أحد ثغور البحر الأسود ، وحاربت في "أوكرانيا" ببسالة وشجاعة، غير أن الهزيمة لحقت بالعثمانيين ، وألجأتهم إلى عقد معاهدة "سان استفانوا" في (ربيع الأول 1295هـ - مارس 1878م) ، وعادت الحملة إلى مصر ، وكان الإنعام على البارودي برتبة "اللواء" والوسام المجيدي من الدرجة الثالثة ، ونيشان الشرف ، لِمَا قدمه من ضروب الشجاعة وألوان البطولة .
العمل السياسى :
بعد عودة البارودي من حرب البلقان تم تعيينه مديرًا لمحافظة الشرقية في (ربيع الآخر 1295هـ - إبريل 1878م) ، وسرعان ما نقل محافظًا للقاهرة ، وكانت مصر في هذه الفترة تمر بمرحلة حرجة من تاريخها ، بعد أن غرقت البلاد في الديون ، وتدخلت إنجلترا وفرنسا في توجيه السياسة المصرية ، بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة المصرية ، ونتيجة لذلك نشطت الحركة الوطنية وتحركت الصحافة ، وظهر تيار الوعي الذي يقوده "جمال الدين الأفغاني" لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار ، وفي هذه الأجواء المشتعلة تنطلق قيثارة البارودي بقصيدة ثائرة تصرخ في أمته ، توقظ النائم وتنبه الغافل .
وبينما كان محمد شريف باشا رئيس مجلس النظار يحاول أن يضع للبلاد دستورًا قويمًا يصلح أحوالها ويرد كرامتها ، فارضًا على الوزارة مسؤوليتها على كل ما تقوم به أمام مجلس شورى النواب ، إذا بالحكومة الإنجليزية والفرنسية تكيدان للخديوي إسماعيل عند الدولة العثمانية لإقصائه الوزيرين الأجنبيين عن الوزارة ، وإسناد نظارتها إلى شريف باشا الوطني
الغيور، وأثمرت سعايتهما ، فصدر قرار من الدولة العثمانية بخلع إسماعيل وتولية ابنه توفيق .
ولما تولّى الخديوي توفيق الحكم سنة (1296هـ - 1879م) أسند نظارة الوزارة إلى شريف باشا ، فأدخل معه في الوزارة البارودي ناظرًا للمعارف والأوقاف ، ونرى البارودي يُحيّي توفيقًا بولايته على مصر ، ويستحثه إلى إصدار الدستور وتأييد الشورى .
غير أن "توفيق" نكص على عقبيه بعد أن تعلقت به الآمال في الإصلاح ، فقبض على جمال الدين الأفغاني ونفاه من البلاد ، وشرد أنصاره ومريديه ، وأجبر شريف باشا على تقديم استقالته ، وقبض هو على زمام الوزارة ، وشكلها تحت رئاسته ، وأبقى البارودي في منصبه وزيرًا للمعارف والأوقاف ، بعدها صار وزيرًا للأوقاف في وزارة رياض .
وقد نهض البارودي بوزارة الأوقاف ، ونقح قوانينها ، وكون لجنة من العلماء والمهندسين والمؤرخين للبحث عن الأوقاف المجهولة ، وجمع الكتب والمخطوطات الموقوفة في المساجد ، ووضعها في مكان واحد ، وكانت هذه المجموعة نواة دار الكتب التي أنشأها "علي مبارك" ، كما عُني بالآثار العربية وكون لها لجنة لجمعها ، فوضعت ما جمعت في مسجد الحاكم حتى تُبنى لها دار خاصة ، ونجح في أن يولي صديقه "محمد عبده" تحرير الوقائع المصرية ، فبدأت الصحافة في مصر عهدًا جديدًا .
ثم تولى البارودي وزارة الحربية خلفًا لرفقي باشا إلى جانب وزارته للأوقاف ، بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة عرابي بعزل رفقي ، وبدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند ، لكنه لم يستمر في المنصب طويلاً ، فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته (25 من رمضان 1298 - 22 من أغسطس 1881م) ، نظرًا لسوء العلاقة بينه وبين رياض باشا رئيس الوزراء، الذي دس له عند الخديوي .
وزارة الثورة :
عاد البارودي مرة أخرى إلى نظارة الحربية والبحرية في الوزارة التي شكلها شريف باشا عقب مظاهرة عابدين التي قام بها الجيش في (14 من شوال 1298 هـ - 9من سبتمبر 1881م) ، لكن الوزارة لم تستمر طويلاً ، وشكل البارودي الوزارة الجديدة في 5 من ربيع الآخر 1299هـ - 24 من فبراير 1882م ، وعين "أحمد عرابي" وزيرًا للحربية ، و"محمود فهمي" للأشغال ، ولذا أُطلق على وزارة البارودي وزارة الثورة ، لأنها ضمت ثلاثة من زعمائها .
وافتتحت الوزارة أعمالها بإعداد الدستور ، ووضعته بحيث يكون موائمًا لآمال الأمة ، ومحققًا أهدافها ، وحافظا كرامتها واستقلالها ، وحمل البارودي نص الدستور إلى الخديوي ، فلم يسعه إلا أن يضع خاتمه عليه بالتصديق ، ثم عرضه على مجلس النواب .
الثورة العرابية :
تم كشف مؤامرة قام بها بعض الضباط الجراكسة لاغتيال البارودي وعرابي ، وتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين ، فقضت بتجريدهم من رتبهم ونفيهم إلى أقاصي السودان ، ولمّا رفع "البارودي" الحكم إلى الخديوي توفيق للتصديق عليه ، رفض بتحريض من قنصلي إنجلترا وفرنسا ، فغضب البارودي ، وعرض الأمر على مجلس النظار ، فقرر أنه ليس من حق الخديوي أن يرفض قرار المحكمة العسكرية العليا وفقًا للدستور ، ثم عرضت الوزارة الأمر على مجلس النواب ، فاجتمع أعضاؤه في منزل البارودي ، وأعلنوا تضامنهم مع الوزارة ، وضرورة خلع الخديوي ومحاكمته إذا استمر على دسائسه .
انتهزت إنجلترا وفرنسا هذا الخلاف ، وحشدتا أسطوليهما في الإسكندرية ، منذرتين بحماية الأجانب ، وقدم قنصلاهما مذكرة في (7 من رجب 1299هـ - 25 من مايو 1882م) بضرورة استقالة الوزارة ، ونفي عرابي ، وتحديد إقامة بعض زملائه ، وقد قابلت وزارة البارودي هذه المطالب بالرفض في الوقت الذي قبلها الخديوي توفيق ، ولم يكن أمام البارودي سوى الاستقالة ، ثم تطورت الأحداث ، وانتهت بدخول الإنجليز مصر ، والقبض على زعماء الثورة العرابية وكبار القادة المشتركين بها ، وحُكِم على البارودي وستة من زملائه بالإعدام ، ثم خُفف إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب .
البارودى فى المنفى :
أقام البارودي في الجزيرة سبعة عشر عامًا وبعض عام ، وأقام مع زملائه في "كولومبو" سبعة أعوام ، ثم فارقهم إلى "كندي" بعد أن دبت الخلافات بينهم ، وألقى كل واحد منهم فشل الثورة على أخيه ، وفي المنفى شغل البارودي نفسه بتعلم الإنجليزية حتى أتقنها ، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف ، وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائر الإسلام .
وطوال هذه الفترة قال قصائده الخالدة ، التي يسكب فيها آلامه وحنينه إلى الوطن ، ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه ، ويتذكر أيام شبابه ولهوه وما آل إليه حاله ، ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض ، وفقدان الأهل والأحباب ، فساءت صحته ، واشتدت وطأة المرض عليه ، ثم سُمح له بالعودة بعد أن تنادت الأصوات وتعالت بضرورة رجوعه إلى مصر، فعاد في (6 من جمادى الأولى 1317هـ - 12من سبتمبر 1899م) .
شعر البارودى :
يعد البارودي رائد الشعر العربي في العصر الحديث ، حيث وثب به وثبة عالية لم يكن يحلم بها معاصروه ، ففكّه من قيوده البديعية وأغراضه الضيقة ، ووصله بروائعه القديمة وصياغتها المحكمة ، وربطه بحياته وحياة أمته .
وهو إن قلّد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضوعات وفي أسلوبهم وفي معانيهم ، فإن له مع ذلك تجديدًا ملموسًا من حيث التعبير عن شعوره وإحساسه ، وله معان جديدة وصور مبتكرة .
وقد نظم الشعر في كل أغراضه المعروفة من غزل ومديح وفخر وهجاء ورثاء ، مرتسمًا نهج الشعر العربي القديم ، غير أن شخصيته كانت واضحة في كل ما نظم ، فهو الضابط الشجاع ، والثائر على الظلم ، والمغترب عن الوطن ، والزوج الحاني ، والأب الشفيق ، والصديق الوفي .
وترك ديوان شعر يزيد عدد أبياته على خمسة آلاف بيت ، طبع في أربعة مجلدات ، وقصيدة طويلة عارض بها البوصيري ، أطلق عليها "كشف الغمة"، وله أيضًا "قيد الأوابد" وهو كتاب نثري سجل فيه خواطره ورسائله بأسلوب مسجوع ، و"مختارات البارودي" وهي مجموعة انتخبها الشاعر من شعر ثلاثين شاعرًا من فحول الشعر العباسي ، يبلغ نحو 40 ألف بيت .
وفاته :
بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي ، وفتح بيته للأدباء والشعراء ، يستمع إليهم ، ويسمعون منه ، وكان على رأسهم شوقي وحافظ ومطران ، وإسماعيل صبري ، وقد تأثروا به ونسجوا على منوال ه، فخطوا بالشعر خطوات واسعة ، وأُطلق عليهم "مدرسة النهضة" أو "مدرسة الأحياء" .
ولم تطل الحياة بالبارودي بعد رجوعه، فلقي ربه في (4 من شوال 1322 هـ - 12 من ديسمبر 1904م) .